إكس خبر- في بعض الدول، مُنعت الروايات الخرافية لتأثيرها في عقول القراء البسطاء، فيصدقون تمتّعهم بقدرات بوباي مثلاً إذا تناولوا السبانخ أو أنهم قادرون على الطيران مثل سوبرمان. سمير جعجع كتب رواية عنوانها «المبدئي» وصدّقها
ما على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سوى الانشغال، في الشهرين المقبلين، بقطف الزهور من حديقته، مستمعاً إلى صوت لطائرة من دون طيار في رأسه. يتسلى بالمثل الشعبي والطبق اليومي اللذين تنصح بهما الأوراق المتساقطة من روزنامة الأخويات المسيحية المعلقة في غرفته، ريثما يصل موعد الانتخابات الرئاسية. عندها فقط ينتهي شهر العسل العونيّ ـــ الحريريّ برفض الرئيس سعد الحريري تسجيل الزواج، وتوفير قيد بالتالي للحكومة الحالية التي لا تزال مجهولة الأبوين. يومها سينتهي الغرام المماثل لغرام سابق قال عون بموجبه إنه يتفق مع الحريري على 95% من الأمور، ويبدأ الانتقام. فيعود التيار الحريريّ ليصبّ في الدائرة الحمراء.
يعوّل سمير جعجع على الوقت. لا يستفزّه تجاهل سعد الحريري المضمر له. أعصابه كالعادة باردة. يهز رأسه ويبلع ريقه كلما ازداد السكين الحريريّ غرزاً في جرحه. الاتصال المباشر الجدي بين الرجلين مقطوع. ها هو الحريري يسأل البطريرك الماروني بشارة الراعي بعد عون عن النتيجة التي يتطلع إليها من انتخابات رئاسة الجمهورية، قبل أن يأخذ علماً بما يريده حليفه المفترض. تقل طائرته الخاصة عدة ركاب من دون المرور بمعراب. يتجاهل قدرته على طمأنة الحكيم من دون إحراجه عبر توزير أحد أعضاء الأمانة العامة لقوى 14 آذار المقربين بغالبيتهم منه، في ظل تدخل الحريري شخصياً عند المعنيين بتشكيل الحكومة لسحب اسم الوزير السابق سليم وردة سريعاً من التداول كأحد مرشحي 14 آذار لشغل المقعد الكاثوليكي، وتوزيره في المقابل حجري الزاوية في اللقاء المسيحي المستقل (النائبين بطرس حرب وميشال فرعون)، ما مثّل استفزازاً استثنائياً لصورة جعجع كقائد لمسيحيي 14 آذار بعدما أظهر حجمه الحقيقي من دون الثياب الحريرية. ومن يرصد حديث القواتيين في مجالسهم الخاصة لا يفهم ما الذي يستفزهم أكثر: كان توزير حرب وفرعون، أم إعطاء ثلاثة وزراء للكتائب؟ خصوصاً أن بين هؤلاء مرشحاً للانتخابات في دائرة لا تحتمل مرشحين حزبيين (سجعان القزي في كسروان)، ومرشحاً محتملاً (رمزي جريج) في الكورة حيث كانت القوات تأمل الحصول على مرشحين مستقبلاً فيها.
خلافاً لما يظنه كثيرون، لا يشعر جعجع أن عاصفة مماثلة لتلك التي اقتلعته من الحياة السياسية عام 1994 على وشك الهبوب. تبدو الصورة أقرب إلى عامي 1985 و1986 أكثر. يومها كان أمين الجميل الرئيس الفعلي لحزب الكتائب والجمهورية اللبنانية، القوات منقسمة معه وضده، الانتخابات الرئاسية قاب قوسين، الدعم الاسرائيلي للقوات يترنح بسبب انفتاحها على السوريين وعدم تأثيرها بالجميل وهو يشعر أنها فرصته، فما كان منه إلا أن قاد الانتفاضة على إيلي حبيقة أولاً وأمين الجميل ثانياً والتناغم السوري الأميركي ثالثاً، وأرداهم مجتمعين. يومها كان جعجع يعلم أن هناك من يحمي ظهره، لتقاطع طموحه مع الرغبة الإسرائيلية في الانتقام من الجميّل وقطع علاقة القوات المستجدة بالاستخبارات السورية ووضع حدّ للقفز الأميركيّ فوق الدور الاسرائيلي في المنطقة. اليوم يحسب جعجع حساب وجود من هو مستعد ليحمي له ظهره لتقاطع طموحه مع الرغبة السلفية في الانتقام من الحريري وقطع علاقة تيار المستقبل المستجدة بحزب الله ووضع حد للقفز السعودي فوق دور الجماعات الإسلامية في المنطقة.
يظن من يسمعهم أنهم يمزحون، لكنهم بالفعل لا يفعلون. إنهم ـــ في القوات اللبنانية ـــ جديون جداً: أولاً، شارعهم (ويقصدون جمهور سعد الحريري) معنا وليس معهم. ثانياً، توزير اللواء أشرف ريفي فرض عليهم (هم هنا تعني الحريري) فرضاً. ثالثاً، ظهورنا بمظهر المبدئيين على حساب مظهرهم كخائنين للمبادئ يقض مضاجعهم. ولا يمكنهم، رابعاً، تجاوز خليتنا أو الأوفياء لجعجع داخل تيارهم، من الرئيس فؤاد السنيورة إلى النائب هادي حبيش مروراً بريفي والنائبين جمال الجراح وأحمد فتفت. وصحيح في هذا السياق أن الحريري يدير أذنه اليوم لنادر الحريري وغطاس الخوري وفريد مكاري ونهاد المشنوق، إلا أنه لن يستطيع تجاهل صراخ الآخرين طويلاً في الأذن الأخرى. ويجب هنا التنويه بإيجاد نائب رئيس مجلس النواب السابق مكاناً لقدميه في دائرة الحقد الجعجعي رغم الكثافة السكانية فيها.
لا يهدد جعجع بانقلاب على المستقبل داخل بيئته الضيقة والواسعة، فقط يعدد أوراق قوته. هو لا يعتقد أن مرحلة قد انتهت وأخرى بدأت؛ لا أبداً: ما زالت معراب تجزم بوقوف التفاهم الإيراني ـــ الغربي عند مقايضة السلاح النووي الإيراني بتسهيلات اقتصادية؛ الغرب وليس إيران من يرفض البحث في ملفات أخرى تهم إيران. التسوية الإيرانية ــ السعودية مستحيلة، وما تقوم به الولايات المتحدة جزء من ادّعائها الدائم أنها ضعيفة لحثّ مواطنيها على اللحمة؛ هي تفعل في دول الربيع العربي ما سبق أن فعلته في فيتنام وأفغانستان والعراق، حين «ادّعت» الخسارة. أما التسوية السورية ـــ السورية فمن سابع المستحيلات؛ يصدق خريج «المقاومة المسيحية» أن طائفة تخوض بشبابها وشيبها معركة وجود شبيهة نسبياً بمعركة المسيحيين في لبنان قبل ربع قرن، يمكن أن تهزم، مع العلم بأن طائفته كانت تقاتل وحدها فعلياً، فيما تصطف في كل من المعسكرين السوريين قوى إقليمية وفيتوات دولية. ويستصعب «الحكيم» التسجيل على ورقة ما يمكنه هو أو أي مرشح آخر لرئاسة الجمهورية أن يقدمه إلى تيار المستقبل، وما يمكن عون أن يقدمه إليهم. هو نفسه الصوت الهامس بهدير طائرة الاستطلاع في رأسه، يؤكد له استحالة انتخاب عون رئيساً ويوحي له بحتمية العودة الحريرية منهكاً إليه. يتجاهل واقع أن فريقه السياسي حقق عام 2009 أفضل نتيجة انتخابية يمكن تحقيقها ولم يتغير شيء، فلن يكرر المجتمع الدولي التجربة نفسها. لا يمكن فعلياً تعداد كل ما يتجاهله جعجع اليوم. ولا أحد هناك في معراب يهزّه من كتفه ليوقظه، فيريه الانعطافة الدولية، يقرأ له بعض الصحف، يخبره فعلاً، لا كما يشتهي، بما هو حاصل حوله، يخبره أن من يرفع صوره على الطرقات إنما هو رجل واحد وليس رأياً عاماً، ويسرّ إليه بأن الحريري سعيد جداً بفعله بنفسه ما كان يستصعب أن يفعله به. ولم يكد يقرأ بضعة أسطر من التحريض الهائل على موقفه عبر موقع القوات الإلكتروني حتى ازداد إعجاباً بخياره وثقة به.
غسان سعود