كتب فاضل الربيعي – شجرة واحدة ُقطعت، فانفجر الغضب الشعبي في ميدان (تقسيم). هذه هي النظرية الزائفة التي شاعت منذ اللحظات الأولى لتفجر المظاهرات الشعبية في تركيا، ثم سرعان ما أصبحت إطاراً نظرياً في أغلب التحليلات السياسية.
ما يلفت الانتباه، حقاً، أن أول من روّج هذه النظرية هو رئيس الوزراء أردوغان بشحمه ولحمه. لقد سارع إلى تصوير أحداث الميدان على أنها (نتاج غضب شعبي) جرّاء قطع شجرة في حديقة عامّة، وأن الأمور سوف تتجه نحو الهدوء.
بالطبع، لم يهدأ الغضب، والمحتجّون لم يذهبوا إلى بيوتهم، والضجيج في (تقسيم) بات يُسمع في أرجاء العالم كله. فهل من المنطقي تخيّل، مجرد تخيّل أن يؤدي الأمر إلى ما أدّى إليه، بينما تحترق من حول تركيا (غابات) وتُقطع أشجار ومن دون أن يتفجرّ غضب بهذا الحجم والقوة والزخم الشعبي؟ المسألة لم تكن أبداً ولا بأي صورة من الصور، مسألة (شجرة) مقطوعة.
لقد تفرّعت أغصان الغضب طولاً وعرضًا بسبب أمور أخرى بكل تأكيد.
ولكي لا تحجب هذه النظرية الزائفة الحقيقة عن أنظارنا، كما تحجب شجرة واحدة الغابة بأكملها – كما يقول المثل- يتعيّن القول دون لبس أو تردد إنها تكمن هنا: في (حديقة أردوغان) نفسها وليس في (الشجرة المقطوعة).
النموذج الأردوغاني هو (الحديقة)، أمّا قطع الشجرة، فليس أكثر من حدث كان ينبغي أن يحدث، لكي يتمكن الأتراك من رؤية الأشجار الكثيفة التي تغطي الميدان، فهي قد تخفي شبح دكتاتورية تتجلبب بجلباب الديمقراطية.
لقد وعد أردوغان، مراراً وتكراراً، أن تكون حديقته وارفة الظلال على شعوب المنطقة، ولشدّ ما بدا هذا النموذج في أوقات كثيرة، جذاباً وصالحاً للتعميم. اليوم فقط، يستفيق الأتراك والعرب والمسلمون -وربما أوروبا أيضاً- على حقيقة أن النموذج الأردوغاني السياسي، والاقتصادي الاجتماعي مليء بالثقوب والعيوب، وأنه أقل ديمقراطية مما ينبغي، وأكثر قابلية لتوليد الاستبداد الديني. وبكلام آخر، تكمن المشكلة في (تربة) النموذج الأيديولوجي الذي نبتت فيه الشجرة المقطوعة.
أردوغان بالطبع، لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة، وهو لا يزال حتى اللحظة ومع كل تصريح جديد، يقدّم تفسيراً للأحداث، يمكن اعتباره طبعة تركية متأخرة من التفسير العربي المعروف، فما يجري مؤامرة داخلية وخارجية، وثمة (إرهابيون) يشاركون في تأجيجها.
لكن نقطة الضعف القاتلة في هذا التفسير، أن لا أحد يعرف منْ هو المتآمر على النموذج الأردوغاني، هل هو الناتو أم الولايات المتحدة أم إسرائيل؟ لقد طرحت أحداث (ميدان تقسيم) هذا النموذج للنقاش الجماهيري العلني، وهو ما لم يفعله صاحب الحديقة قط.
وعلى الأرجح، سوف يعيد هذا الاحتجاج الشعبي النقاش القديم حول تركيا، الدور والهويّة والتاريخ والخيارات الاجتماعية والسياسية إلى منطلقاته الصحيحة.
وأولى ثمار هذه الاحتجاجات الشعبية، حصول الأتراك على فرصة تاريخية نادرة، للمضي أبعد من حدود إعادة تقييم النموذج وتهذيبه. إنها الفرصة التي سوف تمكنّهم من قطع الطريق أمام صعود دكتاتورية جديدة في جلباب ديمقراطي. ولعل قراءة أنثروبولوجية ثقافية تاريخية جديدة (لحديقة أردوغان) قد توفر إمكانات أفضل لتحليل الأحداث.
في الموروث الإسلامي القديم، ثمة (حديقة) أخرى، قُطعت شجرة واحدة فيها، فكان مصيرها الخراب، وقد يصعب محو صورتها من التاريخ، فهي تتشكّل في ذاكرة كل مسلم حتى اليوم، كتصّور مركزي مشبع بالدلالات الروحية عن نمط من الصدام أو التعارض بين الحقيقي والمزيف، الصادق والكاذب، المدنس والطاهر.
لقد نظر العرب في وقت مبكر من الإسلام، وبعين الشكّ إلى فكرة وجود (حديقة) دينية، يمكن أن تجمع المؤمنين تحت ظلالها الوارفة. تلك كانت حديقة الرحمن (رحمن اليمامة الذي يُعرف باسم مسيلمة).
كانت فكرة وجود (حديقة) داخل جغرافيا إسلامية تلعب فيها اليمامة دوراً أكثر حيوية بفضل إزدهارها الزراعي وتحوّلها إلى قوة اقتصادية صاعدة، تبدو في أنظار العرب فكرة مبهمة وغامضة.
ولأن وجود (الحديقة) كان يرتبط في الأصل، بفكرة دينية خلابّة، أعاد الإسلام تشكيلها في الذاكرة العربية ثم الإسلامية في صورة فردوس سماوي (جنّة) فقد شككت قبائل العرب بوعود اليمامة، ورأت أن إمكانية تحويلها إلى (جنة أرضية) أمر يصعب تقبّله.
ومع ذلك، أصرّ رحمن اليمامة على الترويج لحديقته على أنها النموذج الحقيقي؟ إنها جنة أرضية لا تضاهيها أي جنة أخرى، وإنْ كانت سماوية، وما على العرب سوى القبول بها. وفي هذه الحديقة، جرى كما هو معلوم، تحريف ممنهج للإسلام استمر طويلا قبل الصدام العنيف في عهد الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، حين رُفع الأذان في غير أوانه، وقرئ القرآن على غير أحرفه وبغير آياته، حتى إن الصحابي ابن مسعود -رضي الله عنه- تعجب من أذان سمعه في مساجد اليمامة، حين بعثه أبو بكر (رضي الله عنه) لتفقد أحوالها قبل التمرد الشهير المعروف (بحروب الرّدة) فقال مستنكراً: ليس هذا الكلام من القرآن، ولا هذا الأذان من الإسلام.
لقد تمّ التلاعب بالدين داخل (حديقة) اليمامة، وبلغ ذروته حين جرى تعطيل فريضة الزكاة، ثم سرعان ما أدّت الظروف والأحداث إلى تخريبها.
كانت (الزكاة) هي الشجرة التي قطعتها اليمامة.
وهذه كانت كفيلة بالكشف عن عيوب الحديقة. وفي الذاكرة الثقافية الشعبية للمسلمين حتى اليوم، ثمة حديقة واحدة أكثر رحابة وجمالاً، وأكثر رأفة وإنسانية وعدلاً، هي (حديقة الإسلام)، بينما بدا (نموذج اليمامة) الزائف، فاشلاً وعاجزاً عن مزاحمة النموذج الحقيقي، وإنْ استمد منه بعض صوره الكبرى.
ولعل مراجعة تاريخيّة نزيهة وموضوعية، سوف تكشف لنا أن اليمامة، وهي تصارع من أجل فرض نموذجها، كانت تدين بدين الإسلام حتى وقوع حروب الرّدة -أو هي ادعت تمثيله قبل أن تتمرّد عليه- وأن التمرّد وقع، فقط على خلفية الترويج لخطاب دينيّ تحريفي، يُسقط ركناً أساسيّاً من أركان الدين.
ثم اتضحّ أن هذا النموذج لم يكن عادلاً أو منصفاً تجاه القبائل، إذ لم يتسع حتى للبدو ممن جرى طردهم وحرمانهم من غلات وثمار اليمامة وخيراتها.
فأين تكمن المشكلة الجوهرية في نموذج (حديقة أردوغان) ومن يقوم بتخريبها؟
لقد ساهم مفكرون وباحثون من مختلف الملل والنحل في التسويق لنموذج أردوغان هذا، وقاموا بشكل مُمنهج، وخلال فترات ومناسبات مختلفة، بحجب وتمويه حقيقة أنه ينطوي على عيوب جوهرية، فهو -على المستوى الفكري والسياسي- لا يقدّم حلولاً للمسألة الديمقراطية بالترابط مع فكّ شروط التبعيّة للغرب الاستعماري، وعلى العكس من ذلك، يمعن في التغاضي عن مخاطر الاستمرار في نهج التبعية الاقتصادية، كما أنه يتغاضى فعلياً عن الحاجات الملحّة للحفاظ على دور متوازن للدولة في العلاقة مع مواطنيها من القوميات والمذاهب والعقائد الأخرى.
ولعل أكبر عيوب هذا النموذج، تكمن في فشله على المستوى الحقوقي في منع الدولة من التصرف إزاء مواطنيها كطرف (مذهبي).
وفي هذا السياق جرى التمويه على حقيقة (المعجزة الاقتصادية التركية)، صحيح أن البرنامج الاقتصادي حقق معدلات نمو عالية، وصحيح أن تركيا تشهد ازدهاراً اقتصادياً، ولكن الصحيح أيضاً، أن هذا البرنامج أدّى إلى إفقار متزايد لفئات واسعة من الشعب.
وهذا ما أثار حفيظة أحزاب وجماعات إسلامية، شعرت بالحرج الشديد من متابعة تأييدها لنهج رئيس الوزراء، فوجدت نفسها في نهاية المطاف، وقد أصبحت جزءا من الحراك الشعبي.
إن الخطاب الذي هللّ (لحديقة أردوغان) وارفة الظلال، لا يزال -في العالم العربي بوجه أخص- أقل جرأة في نقد عيوب النموذج ممّا يفعل الأتراك أنفسهم من مختلف التيارات الفكرية، فهو يواصل بلغته الإعلامية، تصويره كنموذج خلاصي فريد في نوعه، حتى مع تفجرّ الاحتجاجات الشعبية الصاخبة. وأكثر من ذلك، لا يزال يترددّ أمام نقد (روح التفرّد) والتسلط، بينما بات الخطاب الإسلامي في تركيا أكثر جرأة.
إن المطابقة مع الإسلام والتي سعى إليها هذا النموذج بوسائل دعائية شتى، وبحيث يبدو كما لو أنه هو ذاته نوع من تطبيق (خلاق) للإسلام، كانت وما زالت تفتقر للصدقيّة، والقدرة على ابتكار حلول عملية للمشكلات الاجتماعية، فهو نموذج يعدُ بالحداثة والعصرية و(الحفاظ على الطابع العلماني للدولة) ولكنه في الآن ذاته، يستخدم خطاباً تقليدياً يحطمّ أسس التعايش التاريخي في المجتمع.
ولعل أهم ما كشفت عنه الاحتجاجات الراهنة، أن الروح النقدية التاريخية في المجتمع التركي، لا تزال يقظة حيال التلاعب بحقوقه وخياراته. ومن المعيب حقاً، أننا نشاهد في العالم العربي -بخلاف الحال في تركيا- الجوقة ذاتها من المطبّلين القدامى، وهم يسعون من جديد وبكل الوسائل، لحرمان الآخرين من حق نقد النموذج، أو تصوير أي نقد على أنه (إساءة للخطاب الإسلامي)، هذه المطابقة الماكرة هي التي تساهم في تخرّيب (حديقة أردوغان).
لقد لخصت سيّدة تركية من المحتجّات الأمر على النحو التالي: كيف لنا أن نصدّق أننا دولة مسلمة، وأن نموذجنا إسلاميّ، بينما نحن حلفاء لإسرائيل وأعضاء في الناتو، وساهمنا في تحطيم سوريا؟ هذا التناقض لم يعد شكلياً، وهو يتفجّر في أحشاء النموذج الاقتصادي والسياسي.
لكن متظاهراً آخر لخّص الأمر من زاوية جديدة: نحن هنا للدفاع عن (تركيا ديمقراطية) ولقطع الطريق أمام صعود الدكتاتورية، فماذا يعني ذلك أكثر من أن الجمهور العام قرر بنفسه طرح النموذج للنقاش العلني في الشارع، بعدما سعى مهندسه إلى فرضه دون نقاش؟ وقد يكفي للتذكير بطبيعة المأزق، القول هنا إن الانتخابات ما قبل الأخيرة أعطت أردوغان 47% فقط، وهي أدنى نسبة يحصل عليها حزب العدالة والتنمية.
الضجيج في (حديقة أردوغان) لا يزال يصمّ الآذان.
وهو وحده لا يريد تصديق أن هؤلاء المحتجين، يصرخون ضد (حديقته) لا من أجل شجرة مقطوعة.