ففي السعودية ، وقبل وقت قصير صرح مدير صندوق تنمية ا لموارد البشرية أنه لا يجد حرجا في أن تعمل المرأة السعودية عاملة نظافة مشيرا الى وجود شركات تخطط لتشغيل السعوديات كعاملات منازل برواتب مغرية. ليعقب ذلك الضجة التي ثارت في قطر مؤخرا بسبب اعلان نشرته احدى الشركات بعنوان ” مطلوب خادمة قطرية” لتعتذر الشركة عن هذا الاعلان فيما بعد ، في الوقت الذي اجمع فيه الكثير من القطريين بما فيهم رجال الاعلام بأن القصد من الاعلان هو اذلال اهل قطر، وهو ما صرح به الاعلامي محمد عبدالله العطية رئيس مجلس ادارة ورئيس تحرير مجلة (الدانة). فكيف يمكن لعمل شريف أن يشكل وصمة عار أو اهانة لأي كائن؟ السؤال وجهه القسم العربي هنا أمستردام للدكتور سالم الابيض استاذ علم الاجتماع بجامعة تونس المنارة الذي كشف أن هنالك فرق جوهري بين المشرق والمغرب العربي فيما يتعلق بمسألة العمالة والنظرة لبعض المهن ولكنه اشار في البداية الى أن الجذر اللغوي لكلمة ” مهنة ” يشير الي المهانة والامتهان مما يكشف أن النظرة للعمل المأجور من حيث المبدأ كانت نظرة متعالية.
يشير الدكتور سالم الابيض في تشريحه لنظرة الناس في دول الخليج لمسألة توزيع العمل وتولي بعض الريع النفطي قد جعل اهل الخليج لا يقبلون ممارسة مهن بعينها بافتراض انها مهن رذيلة مثل مهن التنظيف والرعي التي يعمل بها الاجانب الذين يأتون كعمالة وافدة. وهو موقف مشابه لما يحدث في اوربا :
” في أوربا ايضا نجد نظرة مماثلة حيث ينفر الفرنسيون مثلا من مهن بعينها مثل مهنة التنظيف ولكن نتيجة لتفاقم مشكلة البطالة التي وصلت الى 15 بالمائة احيانا ،اضطرب شرائح كثيرة بما فيها الشرائح المتعلمة لقبول مثل هذه المهن”.
يرى الابيض أن ذات الامر يحدث الان في المملكة العربية السعودية التي تشهد ايضا مشكلة بطالة بشكل من الاشكال دون بقية دول الخليج:
” ربما لم تتفشى هذه الظاهرة في بقية دول الخليج مثل قطر والامارات وعمان والبحرين، ولكن في السعودية ونتيجة لتفاقم مشكلة البطالة وتزايد اعداد السكان الذي يؤدي بدوره لقلة الفرص، اصبح هناك سعوديون يعملون في مهن كانوا يرفضونها بالامس القريب مثل المهن الامنية وحتى المهن في مجال التعليم، وهم اصبحوا يتدرجون الان نزولا في قبول مهن مثل النظافة والعمل في البيوت والبلديات”.
النظرة للعمل وللمهن المختلفة وتقييمها مسألة محفوفة بكم من الحساسيات وفي كل المجتمعات تقريبا. ولكن تطور هذه المجتمعات يضع حدودا دنيا فيما يتعلق بتقييم العمل داخل منظومة القيم السائدة. ففي أوربا لا يعتبر العمل حقا فحسب بل وواجب ايضا تعمل اجهزة الدولة المختلفة وتلك المختصة بالضمان الاجتماعي على توفير سبل العمل وحض الافراد العاطلين عليه بأشكال مختلفة تكاد تلامس حدود الاكراه.
أما في مجتمعات شبه الجزيرة العربية والخليج فإن منظومة القيم الرعوية البدوية ما زالت تفعل فعلها في تصنيف الاعمال ومن يتولون انجازها. لا فرق هنا بين مجتمع غني أو فقير. ففي اليمن ما زالت بعض المهن محتقرة ولا تجد التقييم اللازم مثل مهن الحلاقة والحدادة والجزارة. كما تسود هرمية ترفع من شأن مهنة الرعي لتليها الزراعة ثم المهن الحرفية واليدوية في اسفل السلم مثل الحدادة والنجارة.
هذا, وتتداخل العوامل من اقتصادي وديني وثقافي في تقسيم العمل وتقييمه من قبل مجتمع ما. فقد اشار الكاتب السعودي بدر الخريف نائب مسئول التحرير بجريدة الشرق الاوسط واصفا العاصمة السعودية الرياض قبل اربعين سنة قائلا أن النساء كن يعملن في وظائف سكرتيرات وفي المنازل وأوضح الخريف أن ثقافة العيب كانت غائبة تماما في المجتمع السعودي سابقاً، حيث كان السعودي يعمل في السباكة والحلاقة والمخابز.
واستغرب من الهجمة الشرسة التي واجهت القرار الذي يسمح للمرأة السعودية بالعمل كعاملة منزلية، مؤكداً أنها كانت تعمل ذات وقت من الاوقات مستخدمة في المدارس وطباخة في المنازل، موضحاً أنه لا عيب في ذلك.
يتساءل المرء بالطبع ما الذي حدث كي يتحول المجتمع كل هذا التحول الذي يأخذ شكل الانقلاب هنا؟ هل هو ا لتيار الديني المتشدد، أم الفائض النقدي الناتج عن النفط أم الثقافة القبلية؟
الدكتور سالم الابيض يرى أن توزيع الريع بمختلف اشكاله التي غالبا ما تأخذ شكل خدمات متطورة من صحة وتعليم وامتدت لتشمل تمويل الزواج كما يحدث في الكويت ، كل ذلك لا يشجع الفرد على قبول أي عمل بعكس مجتمعات وبلدان اخرى يكون فيها المرء مجبرا على تأمين قوت يومه.
” هذه الثقافة تشكلت في ظل الطفرة النفطية ، فبلدان الخليج التي يفترض انها ذات ثقافة عربية وإسلامية ، ليس في هذه الثقافة ما يدين او يمنع العمل او يرفضه. بالعكس الثقافة الاسلامية تعتبر العمل نوعا من العبادة دون أن يتم تحديد نوعه طالما كان شريفا”.