بقلم عندليب دندش – تحلّ اليوم 13 نيسان الذكرى 38 للحرب الأهلية, ونسترجع فيها ذكريات بعض من عاشها بشهادات جدّ مأساوية تُكشف للمرة الأولى لأناس عانوا من الجلّاد طويلا, وآخرون حملوا سلاحهم ووقع بين أيديهم عشرات الضحايا, بعضهم لن ينسى قساوة قلبه وكيف سمحت له بقتل روح كانت تنبض بالحياة وبعض آخر لن ينسى أحباء أثكلته بهم الحرب.
تروي “أم سامر” للزميلة عندليب دندش، تفاصيل مأساتها التي بدأت في صيف ١٩٨٥، عندما حرمتها حواجز “الميليشيات” من ولدها، ليبقى رحيل ابنها وبعد سنوات طويلة على الغياب، رافدا لدموع تنهمر بغزارة ألما وشوقا.
تقول الوالدة : توجّه سامر في ذاك الصيف الى بيروت قادما من الهرمل، لزيارة شقيقته المتزوجة التي تُعاني من مرض عضال، على أن يعود الى البقاع في مهلة أقصاها أسبوع.
انقضى الأسبوع وصارت الأم تترقب عودة ولدها بين الساعة والأخرى رغم أن قلبها اشتعل نارا عليه من دون أسباب. وقامت بطهو “الكبة بلبن” التي يحبها سامر جدا، إلا أنها أحست بأن ابنها لن يتذوقها. فلم تستطع اكمال الطهي ووجدت دموعها تسيل أنهارا دون توقف. بدأت بالصلاة والتضرع الى الله أن يحفظ ابنها ويعيده سالما إليها. ولم يُفلح أولادها الباقون في التخفيف من قلقها.
تتابع أم سامر: “مر يوم وأنا على هذه الحال، فلم أنم طوال الليل إلا ما يقارب النصف ساعة تقريبا، استيقظت بعدها على كابوس رأيت فيه سامر يودعني.
وعندما حاولت التوجه الى بيروت في أول سيارة أجرة فشلت بعد إحجام السائقين عن التوجه الى العاصمة نظرا للأحداث الأمنية، “فرجوت جارنا أن ينقلني الى بيروت مقابل ما يريد من المال فوافق الجار رأفة بي رغم مخاطر الطرقات. وما إن وصلت إلى منزل ابنتي حتى أدركت الحقيقة المرّة: سامر لم يصل الى اخته وبات في طور المفقودين”.
أغمي على الأم المثكولة، وما ان استعادت وعيها حتى سارعت الى الاتصال بمكاتب الاحزاب الفاعلة على الارض لكشف مصير ابنها، وتبين بعد أسبوع من التحري والاتصال ان السيارة التي كانت تقل سامر تم توقيفها على أحد الحواجز وتم تصفية كل من بداخلها بعد ٥ أيام من توقيفهم واستجوابهم.
مقاتلون يتحدثون
لم تستطع سنوات السلم الأهلي أن تمحو من ذاكرة محمد (اسم مستعار)، الأعوام التي رفع فيها سلاحه بوجه “العدو الداخلي”.
محمد واحد من آلاف انخرطوا في تلك الأيام العصيبة في ميليشيات طائفية وحزبية رفع كل منها شعار “الدفاع عن جماعتها”.
يبرّر محمد مشاركته في تلك الحرب بأنه “كان لا بد من محاربة الفريق الذي قرر التعامل مع اسرائيل ضد أهلنا في الجنوب وبيروت”.
ويضيف “ففي حينها لم يكن باستطاعة أي امرئ أن يتجاوز المجازر التي ارتكبتها الميليشيات اللبنانية بحق الفلسطينيين واللبنانيين في صبرا وشاتيلا، وغيرها من المناطق بتغطية من الاحتلال الاسرائيلي”.
انخرط محمد في تلك الحقبة في حركة تبنت الدفاع عن المحرومين إلا أن “سرعان ما وجدنا أنفسنا نخوض حروبا محقة ونغرق في معارك “غير محقة” ولا تخدم قضيتنا”.
صحيح أنه كان لمحمد شرف صد الآلة العسكرية الاسرائيلية الزاحفة باتجاه العاصمة حيث استطاع مع رفاقه الصمود على موقع كلية العلوم في بيروت الذي قاوم الاجتياح ببسالة ورفض الاستسلام، إلا أن مشاركته في حرب المخيمات “لا تزال تقض مضجعي وتشعرني بعذاب الضمير، لأنه لم يكن ينبغي أن يحصل ما حصل، فهؤلاء كانوا أهلنا وناسنا”.
في المقلب الآخر، لم تكن المبررات أقل إقناعا، فالمقاتل جورج (اسم مستعار)، الذي يشغل اليوم وظيفة رسمية يحاول طي صفحة ماضٍ لم يندم عليه ولكن تمنى مرات عديدة لو لم تفرضه الظروف، “لأن الحرب كانت أكبر منا وكنا في حال الدفاع عن النفس. وكنت حينها مستعدا للقتال حتى مع الشيطان، لحماية مناطقنا من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين المتحالفين معهم، خصوصا ان يومها كانت النظرة الى الوطن تختلف عمّا هو عليه الآن”.
لا يريد جورج ان يستعيد شيئا من الماضي وتفاصيله، يحدثنا بالعموميات عن مشاركته “نعم شاركت وقتلت، ويتّمت أطفالا وأبكيت أحياء.. لكن هي الحرب، والصورة نفسها حصلت في مناطقنا، فلقد قُتل الكثير منا وتيتمت أطفالنا وتهجّر الكثير من أهل قرانا ولا يزالون مهجرين حتى الآن”.
محمد وجورج، وإن تلطخت أيديهما بدماء أبرياء أو مذنبين، إلا أنهما يؤكدان بأنها لحظات صعبة تلك التي اضطروا فيها الى نزع روح وقتل حياة. “تنذكر ما تنعاد” عبارة رددها الاثنان.
غيض من فيض من قصص الحرب وغصاتها.. فما بالنا لو عرجنا على واقع أطفال الحرب الذين كانوا يرفعون صلواتهم ودعاءهم على لحن الخوف والارتعاش، يحاولون التحدث عن أي شيء يخطر ببالهم لنسيان أصوات القصف وأزيز الرصاص.
وما بالنا لو عرجنا على من ودع أحبته على فراش التضحية، وهو ينظر إليهم بدمع مثقل بالحزن وقلب مكسور.
شهداء الوطن ماتوا وهم يئنون من وجع الوطن، الذي ألمّ بهم وأغرقهم في بحور الفناء، فيما لا يزال تحت التراب الكثير من المفقودين، شاهدين على استمرارية المأساة. فهل يكفي هذا الثمن لعدم عودة اللبنانيين الى الماضي الدامي الذي تتشابه ظروفه مع مجريات المرحلة الحالية؟