تحوّل المركز، نتيجة ذلك، إلى مطبخ رئيسي في صنع الدراسات عن القضايا الآنية، لمن يبحث عنها: أزمة الكهرباء، قوانين الانتخاب، سياسة الدفاع، الدور المسيحي في المشرق وغيرها. واستقطب من أهملت مراكز الأبحاث الأخرى أبحاثهم، لاستقلاليتهم التفكيرية عن طوائفهم، في موازاة فتحه صالوناً حوارياً بات يمكن من سئم النقاشات التلفزيونية العقيمة أن يقصده عصر كل أربعاء ليناقش ضيفه السياسيّ أو الدبلوماسيّ في أفكاره.
ومن المركز ــــ النموذج عن طريقة عمل بو حبيب ــــ إلى انتخابات الرابطة المارونية التي يترشح سفير لبنان السابق لدى واشنطن إلى رئاستها. في رأيه، الرابطة واحدة من مؤسسات عدة، لا يمكن أن تكتفي بلعب دور المتفرج في مرحلة اللااستقرار الإقليمي هذه والتهديد الوجوديّ للمسيحيين. «لا يكفي الصراخ. لا بدّ من تحويل الرابطة إلى مركز أبحاث وضغط على القوى السياسية المسيحية، وجعلها أداة تواصل مسيحيّ مع مراكز صناعة القرار ومجموعات الدراسات والأبحاث في العالم العربي والغربي وروسيا». يتوقف الكتائبي السابق عند الانعكاس السلبي لغياب المسيحيين تاريخياً عن تلك الأروقة عليهم، معتبراً أن تلك المراكز تعنيها وتؤثر فيها الأرقام، لا العاطفة والمذهبية كما يظن مسيحيون كثر. يرى بو حبيب أنه قادر على التفرغ للرابطة. وهو حرص، عند تشكيله لائحته أو اختيار نائب الرئيس والمجلس التنفيذي الذي يضم خمسة عشر عضواً، على اختيار مجموعة متحرّرة من المصالح الخاصة التي تحول دون رفعها الصوت صراحة في الملفات المسيحية الرئيسية مثل بيع الأراضي وقانون الانتخابات والتجنيس.
من سن الفيل، تقود زحمة السير زائر نقيب المحامين السابق سمير أبي اللمع إلى مكتبه خلف قصر العدل. هو أحد المرشحَين اللذين يتحدث بو حبيب عنهما. ينافس النقيب السابق السفير السابق في اللطف والدماثة، حتى يخيّل لزائره أنه يعرفه منذ عقدين لا دقيقتين. يشبه قريب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الحاكمَ والرئيس ميشال سليمان في المضمون، فيما يقترب في الشكل من وزير الداخلية مروان شربل. حفظ الرجل خطاباً يردده في شتى الصالونات: «لا بدّ من رابطة تجمع الكل». والأهم: «لا بدّ من توحيد الموارنة. وحدة الموارنة توحّد المسيحيين، ووحدة المسيحيين توحّد لبنان». تحلّ الأزمة السنية ــــ الشيعية ويعود السلفيون إلى جحورهم بمجرد أن يتوحّد الموارنة. ربما يفترض أبي اللمع ذلك. ويضيف: «نحن خميرة هذا الشرق، حريته وحقوق إنسانه». وفي حساباته أن رئيس الرابطة الحالي جوزف طربيه أقرب إليه من سائر المرشحين، وكذلك رئيسي الرابطة السابقين إرنست كرم وحارث شهاب. أما عضو تكتل التغيير والإصلاح النائب نعمة الله أبي نصر، وهو أبرز اللاعبين الانتخابيين في الرابطة، فيعد أبي اللمع بكلمة سرّ تريح أعصابه خلال يومين على الأكثر، وتملأ كرسي الأمين العام في لائحته، فيما يعد أبي نصره بو حبيب بالأمر نفسه، وإن كان لا يزال يرفض طلب بو حبيب «تقريش» كلامه وترشيح ابنه على لائحته. والأكيد أن أبي نصر ضائعٌ. محتار في أمره بين علاقته السياسية بالعماد ميشال عون الذي يرى وسط أعضاء لائحة بو حبيب من هم أقرب إليه من المرشحين على اللوائح الأخرى والذي ينحاز نوابه بشدة للسفير السابق، وبين علاقته العائلية برئيس جمعية المصارف السابق فرنسوا باسيل، راعي لائحة أبي اللمع، وأحد أبرز خصوم التيار الوطني الحر الجبيليين.
إلى الأشرفية. صوت الكتلاويّ السابق أنطوان اقليموس هو نفسه، سواء كان يتحدث عن انتخابات الرابطة التي يترشح لرئاستها اليوم أو عن الاعتقالات غير القانونية للشباب المطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال قبل بضع سنوات، أو عن أحوال حزب الكتلة الوطنية أمس واليوم. ورغم تراكم الملفات في مكتب نقيب المحامين السابق، على نحو يكاد يخفي الجدران، فإن لدى رئيس لجنة الطلاب السابق في مدرسة الحكمة والأمين العام السابق لرابطة طلاب الحقوق والعضو السابق في نادي الحكمة ومجلس أبرشية بيروت التنفيذي والأمين العام السابق لحزب الكتلة الوطنية، الوقت لتحقيق «مشروع مجموعة» في الرابطة المارونية. «ينكز» إقليموس أبي اللمع، عبر تشديده بعد استعراض خبراته على أن الاهتمام بالشأن العام يخلق مع الإنسان ولا يتعلّمه، وهو حسي أكثر منه ثقافياً. يرفض اقليموس اتهامات المحيطين بأبي اللمع له بوجود لوبي مالي وراءه ممثل برئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام ورجل الأعمال شارل الحاج وغيرهما من أعضاء مؤسسة الانتشار الماروني، معتبراً أن «مشروعاً مارونياً، لا سياسياً ولا أي شيء آخر، هو ما يجمع هؤلاء». علماً أن دعم افرام لاقليموس يفيده في أمكنة ويضرّه في أخرى، كالرابية مثلاً. تماماً كما يستفيد أبي اللمع من دعم الحاكم ورئيس الجمهورية في أمكنة كمصرف لبنان والمصارف الأخرى، ويضرّه في الرابية أيضاً، الأمر الذي يفسر، نسبياً، دعوات عضو الهيئة التنفيذية في الرابطة الحالية طلال الدويهي الأخيرة إلى عدم انتخاب «الواجهة» أو «الوجاهة»، مفترضاً أن أحد زميليه واجهة لافرام والآخر تهمّه الوجاهة فقط. في وقت يمثل فيه بو حبيب أول تقاطع انتخابي جديّ بين الكتائب والعونيين، ويأمل كثيرون ولا سيما وسط المرشحين إلى الانتخابات النيابية في المتن الشماليّ وكسروان والبترون نجاحه.
وللمال الانتخابي في انتخابات الرابطة عنوان آخر. يشار في هذا السياق إلى أن المجموعة التي ينتمي اقليموس إليها هي بالفعل مجموعة غير حزبية، وإن كانت تضمّ مسؤول القوات في كسروان شوقي دكاش والمقرب من القوات أنطونيو عنداري الذي رشحه الوزير جبران باسيل لتولي سفارة لبنان في الأرجنتين، تبحث عمّا يمكن أن تفعله لمجتمعها من دون أن تترجم أحلامها واقعياً بعد. يشدد اقليموس، على غرار أبي اللمع، على تنوع لائحته السياسي. أما في حال فوزه، فيعد نفسه بأن يكون قادراً، بعد عام، على القول إنه أسهم في إخراج مجتمعه من الحالة الانهزامية، وإعادة المسيحيين إلى الدولة، وصياغة عقد اجتماعي واقتصادي جديد.
وبالانتقال من الأحاديث الرسمية العامة إلى التفاصيل: تبدو لائحة اقليموس، في الشكل، أغنى بالكفاءات من لائحة بو حبيب، إذ تضمّ نقيبين سابقين لأطباء الأسنان والصيادلة ومسؤولي العلاقات العامة في جامعتي الحكمة وسيدة اللويزة ورئيس لجنة أصحاب شركات التأمين وغيرهم، فيما تضم لائحة بو حبيب مرشحاً قوياً لموقع نائب الرئيس هو مارون الحلو، وعضو الهيئة التنفيذية في الرابطة الحالية طلال الدويهي وشارل غسطين وتوفيق معوض والإعلاميين أنطوان سعد وندى أندراوس والجنرال منير رحيم، وغيرهم ممن يقول بو حبيب إنهم يتعاطون يومياً في الشأن العام و«ليسوا ناجحين في أعمالهم فقط». أما أبي اللمع فيبدو، من كثرة المحامين في لائحته، كمن يخوض انتخابات نقابة المحامين في الرابطة المارونية. وقد نجح بو حبيب، عبر استقطابه الدويهي وسعد، في سحب ورقتين مهمتين من ملف اقليموس الانتخابي: الدويهي من أنشط أعضاء مجلس الرابطة التنفيذي وسعد ممن يتمتعون بصدقية كبيرة في الأوساط المارونية. فيما ينعكس أداء اقليموس وأبي اللمع في الرابطة الحالية سلباً عليهما، فهما، كالدويهي، عضوان في مجلس الرابطة التنفيذي: اقليموس كان مكلفاً إعداد مؤتمر للمغتربين وأبي اللمع في لجنة الدراسات الدستورية. لكن لا مؤتمر المغتربين أبصر النور ولا لجنة الدراسات المفترضة بيّنت وجهة نظر الرابطة في قانون الانتخاب الذي يشكّل شغل المسيحيين الشاغل، أقله اليوم. أما نقطة ضعف بو حبيب الرئيسية فعدم معرفته بأكثرية الناخبين، جراء غيابه طويلاً في البنك الدولي والولايات المتحدة ومركز فارس، وعدم مشاركته ــــ على غرار اقليموس وأبي اللمع ــــ في موائد الغداء والعشاء للعلاقات العامة. مع العلم أن تجربة الرابطة، الحالية والسابقة، تؤكد أن الأسماء الكبيرة لا تقدم ولا تؤخر في أوضاع الموارنة. فما أنجزه الدويهي، وحده، من دراسات حول بيع الأراضي وغيرها، وإثارته هذا الملف إعلامياً، كانت أفضل بكثير مما فعله في الرابطة، مثلاً رئيس مجلس إدارة المؤسسة اللبنانية للإرسال بيار الضاهر ورئيس جمعية الصناعيين السابق الوزير فادي عبود ورئيس جمعية المصارف السابق فرنسوا باسيل وغيرهم.
الخلاصة، أن انتخابات غير عادية تشهدها الرابطة المارونية. فعشية خروج الرئيس ميشال سليمان ومعه رئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام عن الإجماع المسيحيّ المزعوم في ما يخص قانون الانتخاب، تحدد صناديق الرابطة إذا كانت «النخبة المارونية»، كما يصف اقليموس هيئة الرابطة الناخبة، تفضل أسلوب افرام أو نهج عون ــــ الجميل. مع وجوب أخذ الناخبين في الاعتبار أن تشتيتهم أصواتهم بين بو حبيب واقليموس يتيح فوز من يشبهون أبي اللمع. أول من أمس، اعتذر أبي اللمع عن عدم المشاركة في حلقة تلفزيونية تجمعه واقليموس وبو حبيب، ليستفيد بعيداً عن الأضواء من تصادمهما (الذي لم يحصل).
—————————-
رئيس الرابطة بين العام والخاص
بينت تجربة رئيس الرابطة الحالي جوزف طربيه أن علاقات رئيسها الخاصة وأعماله يمكن أن تشل الرابطة وتمنعها من لعب أدوارها البديهية في ما يخص قانون الانتخاب، مثلاً، أو بيع الأراضي وغيرها. حتى أن خلافاً نشب بين طربيه وعضو مجلس الرابطة التنفيذي أنطوان واكيم جراء رفض الأول نشر دراسة عن الفلسطينيين في لبنان كلف الثاني إعدادها. ولا شك في أن انتخاب أبي اللمع رئيساً سيبقي الرابطة في أسرها الحاليّ جراء علاقته الوطيدة بحاكم مصرف لبنان، وحرص الأخير على توطيد علاقاته الداخلية والإقليمية. أما اقليموس فسيكون أمام اختبار شعبي حقيقي: هل يبقى على مواقفه المعروفة الحادة أم يليّنه نادي رجال الأعمال الداعم له، ممثلاً برئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام؟