وتقول غدي: “انطلقت، جربت في اليوم الأول الدخول خلسة وللمرة الأولى من لبنان إلى سوريا. كنت قد اتفقت على ذلك مع مهرب من آل عامر من القصير يعيش في الهرمل. قال إنه سيلاقيني في البساتين ما بين القرى الشيعية والقرى السنية. يتوجب عليّ أن أعبر من خلال مواقع الحزب، ثم ألاقيه في المنطقة العازلة. من هناك، قال ابن عامر أنه يكفل درب الجيش الحر. فهو من أهم عائلات الجيش الحر في القصير. أخوته يقاتلون هناك، وله باع في العمل لأجل الثورة. كما أن بضعة دولارات لقاء رحلة التهريب لن تضيره.
لبست عباءة وحجابا كي لا يكون منظري ملفت وأنا متنكرة على هيئة شخصية مزارعة من تلك القرى. وإلى “حوش السيد علي” الحدودية، من الهرمل انطلقت على دراجة نارية، ومع دخولنا تحت شمس الظهيرة إلى بلدة الحوش كانت قد رصدتنا استخبارات القرية، فكل أهل القرية يخبرون بعضهم حين يحل في أرضها غريب. وصل خبرنا إلى أمن الحزب قبل أن نصل إلى منزل المهرب الحوشي الذي تكفل بالمرور عبر طريق الحزب. وبعد أن وصلت منزل المهرب دخل علينا البيت رجل خمسيني وصرخ بي: “أنت ماذا تفعلين هنا، مشي معنا”.
لم أتيقن فورا أنه من شباب حزب الله، لكن معرفتي بالقرية أكدت هوية الرجل. ركبت في المقعد الخلفي المتوسط لسيارة رباعية الدفع، وحولي رجال الحزب باجهزتهم اللاسلكية. بدأت أمتعض من الرجل الذي صرخ بي ومن الأسلوب الذي يعتمدونه وكأن صيدهم وقع على عميل للعدو. توقفت السيارة فجأة وترجل منها الرجل الخمسيني الصارخ. التفت إلي الرجل الذي يركب إلى جانب السائق ليقول مبتسماً: “هكذا أفضل؟”. فهدأت.
بدأ الكلام يدور عبر الأجهزة اللاسلكية: هذه ليست سورية، إنها صحافية لبنانية فلانة الفلانية. بعد دقائق، ركنت السيارة في باحة خلفية لأحد البيوت وبدأت الأسئلة: لماذا أتيت إلى هنا؟ وأين تذهبين؟ وماذا تصورين؟ ولمصلحة من؟
كلما سألوا سؤالاً ازداد امتعاضي، وهم يبررون أسئلتهم دائماً بحرصهم عليّ. قالوا إنهم لن يسمحوا لي بالذهاب إلى القصير حرصاً عليّ، “إن ذهبت لن تعودي. وكان ردي دائما: “أنا لست أنتم. أنتم لا تعودون إن ذهبتم لكنني أستطيع العودة، وبيدي كاميرا ستشفع لي”.
في هذا الوقت.. كان بن عامر لا يزال يقف منتظراً عند بساتين النهرية، أول قرية سنية ما قبل القصير. قبل أن يعرف أن حزب الله افشل عملية التهريب.
لا حدود سورية لبنانية هنا. وليس الجيشان السوري واللبناني سوى صرحين ككل هذه الصروح، بناء قروي وسط بساتين مسلحة. ولا حكم لأي جيش هنا.. بل السلطة مقسومة بين الجيوش الثلاثة: التهريب، والأمن والاستخبارات، والفقراء.
أخرني اعتقال شباب الحزب لي. واستمرت أسئلتهم حتى انتهينا إلى اتفاق مفاده: “إن دخلت إلى هناك ففي أمان الله ولكن على مسؤوليتك الخاصة”.
بحثت في اليوم التالي مع بن عامر الحمصي عن مهرّب شيعي آخر، لم تحترق أوراقي الأمنية معه بعد. فالعبور بين حزب الله والجيش السوري والجيش السوري الحر ليس بالمهمة السهلة. ليقع الخيار أخيرا على أمير.
أمير رجل مثل كل رجال هذه القرى، له أخت تزوجت في القصير، وله صهر يرحل ويعود يومياً ليبيع الدخان المهرّب من سوريا. له صلة وصل يومية لم ولن تنقطع مع القصير الحمصية السنية. يعمل أمير في تهريب الناس. كان في السابق يهرب العراقيات الكرديات بعد أن يغتصبهن أحياناً. حركة تهريب الأشخاص ناشطة جداً على الحدود السورية منذ زمن بعيد، قبل أن تصبح كما هي اليوم” “مهنة ثورية”. اليوم، وعلى الرغم من صورة السيد حسن نصر الله المعلقة في بيت أمير، يوافق على تهريبي إلى منتصف طريق القصير. فلنتكل على الله.
الخطة الأفضل بحسب أمير الخبير كانت على النحو الآتي: أصطحبك صباحاً ومع طلوع الفجر إلى بيت أمي، وتعبرين معها حينما تعبر. تلبسين كالبدوية، وترافيقينها في رعاية البقر فلا ينتبه الجيش السوري، وبعد ذلك، سأكون على دراجتي النارية بانتظارك. وأوصلك إلى ابن عامر في النهرية.
وهذا ما حصل.
في صباح اليوم التالي كنا نمشي بين البساتين دون الدخول إلى الصفصافة أو زيتا أو تلك القرى الشيعية المحزّمة بعناصر الحزب، بل نتسلل خلال طرق زراعية دون أن نرى أي شخص. تصل دراجة أمير إلى دراجة ابن عامر.. استبدل الثانية بالأولى.
نحن الآن على طريق القصير، دقائق قليلة بين البساتين، ونصل إلى القنطرة الأثرية بالقرب من مياه نهر العاصي، تنتهي فوق هذه القنطرة المنطقة العازلة المختلطة من السنة والشيعة، وتبدأ قاعدة القاعدة في حمص: القصير، أو المنطقة التي دمرت وحوصرت لتبقى ممرا إسلامياً جهادياً مسلحاً إلى الداخل السوري.
جثث قتلى الجيش العربي السوري تعلن بدء المدينة، تتنزه “دوشكا” على تويوتا حول حزام المدينة. ويطل الحاجز الأول: نحن شرعياً في القصير التي يحكمها تشكيل متنوع من الجيش الحر.
تجولت في القصير أربع ساعات قبل أن ننطلق عائدين كي نلتقي أمير الحوشي مرة أخرى. لكن أمير كان في عهدة حزب الله. لم أدر أنه معتقل منذ الصباح بعد ما أوصلني بلحظات. في منطقة تتشابك فيها شبكات الهواتف وتغيب حاولنا كثيراً أن نتصل بأمير دون جدوى. حتى باتت تحوم حولنا دوريات عسكرية. تمر دورية للجيش الحر من أمامنا. من خلفنا جنود حزب الله، بينما جنود للجيش العربي السوري في الخط الموازي. ونحن تائهين في البساتين، نبحث عن أمير.
بعد مضي ساعة من التوتر بين دوريات العسكر الحدودي بأنواعها الثلاثة، اقترح ابن عامر القصيري أن نلجأ إلى منازل أحد أصدقائه في النهرية الواقعة في المنطقة العازلة. “سنكون بأمان، حتى يكلمنا أمير.. لكن لا تقولي أنك صحفية، قولي أنك جئت لتتفقدي حال زوجك لأنه يقاتل في القصير”.
بدأت الرعب ينتابني. مضت ساعة في الانتظار لدى البيت الغريب في النهرية، وأمير لم يرد بعد. استسلمت. قلت لابن عامر بصريح العبارة المذهبية: “سوف أقترب إلى أول منزل شيعي معك على الدراجة، ومن هناك، أعرف أنني عدت إلى لبنان”. كنت اعرف أن الأراضي كلها سورية. لكنه تحصيل حاصل أن القرى الشيعية التي تعيش هناك تابعة لحزب الله. فلولا الحزب، لكان مصيرها كمصير إخوتها في ريف القصير من تهجير وقتل. ثم إن الحزب لو تركها، فسوف يمتد الجيش الحر إلى تخوم الهرمل.
أنقذتنا لعبة الوقت من ملاحقة الجيش السوري، واعتقلني مرة أخرى أمن حزب الله لدى اقترابي من أول منزل شيعي. حين اصطحبوني برفقة دراجتين ناريتين، لم أعرف أنهم حزب الله. وصلنا بعد دقائق إلى منزل وفتحوا لي باب المضافة، فيها صورة للسيد حسن نصر الله. شعرت بالراحة كثيرا. هنا، مهما كانت “جريمتك” فلن تموت قتلا، حزب الله حزب منظم ومنضبط، أما الجيش الحر فحالة انفعالية غير منظمة. حزب الله مشروع مقاومة، والجيش الحر ردة فعل مسلحة مدعومة من بعيد. حزب الله لا يذبح، أما الجيش الحر وبشهادة يوتيوب، فيذبح حتى بوجود الأطفال.
أمضيت أربع ساعات من عصر ذلك اليوم محتجزة لدى فريق أمني قيادي لحزب الله، كان وقتها شهر رمضان، فتأخر إفطارهم حتى انتهى التحقيق. حققوا معي في تفاصيل مسيرتي وحياتي. ومشّطوا مادّتي الإعلامية تمشيطاً كاملاً قبل أن يطلقوا سراحي. تأكدوا أنني لم أصورهم ولم يعيروا المادة اهتماماً. القصير بين يديهم وتحت عيونهم قبل الثورة بكثير. عندها عدت، متيقنة أن معركة قادمة سوف تحدث، ولكني فضلت السكوت لدى عرض المادة عبر قناة الميادين. قلت أنني عبرت من الهرمل دون الحديث عن حزب الله.. لكن ما بدا لي هناك هو أن أي من الجيوش الثلاثة يدرك تماما وجود الجيشين الآخرين، ولكن موعد المواجهة مؤجل… معركة أخرى من المعارك السورية التي لا يراد لها الحسم. معركة للتوظيف والاستثمار لاحقا.
دخل الجيش السوري القصير وخرج كما دخل. يقصف منذ عام ونصف على مسمع هذه البلدات. قصف القصير يهزّ منازل المشرفة والصفصافة والقصر والحوش والحويك وزيتا، ولكن ما باليد حيلة. عايش أهل المنطقة التفاصيل وعرفوا كل الأسماء، ويعرفون أن المعركة في القصير لم تحسم بعد. “دم يومي يسد جوع الموت، لكن الدم سيصل إلى الركب”، هكذا يقول الجعافرة الرابضين في القصر.
اليوم، وبعد أكثر من عام على الاحتكاكات العسكرية في تلك النواحي، بدأ الجيش الحر يخل التوافق الذي كان يدور تحت الطاولة العسكرية. دخلت زمره القتالية القروية بسلاحها وتكتيكها المضحك المبكي على قرى المنطقة العازلة المختلطة. طردت الناس من بيوتهم لأنهم شيعة. وكبّروا: “الله أكبر، رحل الشيعة من هنا”. ثم بدأ الاشتباك الذي انتهى بمصرعهم ومصرع 3 مقاتلين للحزب. ما حدث أن الجيش الحر تقدّم خطوة نحو المنطقة العازلة. لكنه لم ينتصر في ما أراده معركة عسكرية.
وواكبه الإعلام الموجّه بالزمان والمكان والظرف، ليحكي اليوم واليوم فقط عن تلك القرى. هل يملك حزب الله أن يعطينا تفصيل رقم عدد شهدائه الذين سقطوا في معارك من هذا النوع في هذه المنطقة بالتحديد من قبل؟ الرقم أكثر بكثير من المتوفر في الإعلام. لكن الحزب مدرك أن إعلان ذلك لن يفيد إلا في تسريع الانفجار السني الشيعي. والحزب أكثر حكمة.
هل يملك الحزب أن يعطينا عدد جرحى الجيش الحر ومنشقيه الذين مروا عبر الهرمل من حمص إلى طرابلس؟ يعرف الحزب أنه لم يغلق الباب، ولو أراد لقطع طريق الهرمل، ويدرك من يدرك في المعارضة السورية وأجهزة السفارات التي تدعمها أن الهرمل لا تزال في مرحلة شعارها: “أمهل” لكن لا “تهمل”!
السؤال اليوم بعد مضي ستة أشهر، وبعدما أعلن الجميع أننا بتنا في مرحلة “الحكي المفضوح” عن خط التماس هذا، والقائم حكماً بين حمص والهرمل، ماذا سيحدث غدا؟
انظر إلى الخريطة، تبدو الهرمل بسكانها الـ 120 ألف، قلعة محاطة من كل جانب، فشرقها عرسال، وخلف عرسال ريف دمشق المسيطر عليه من قبل الجيش الحر، أما غربها فعكار والضنية المسيطر عليهما من قبل الجيش الحر اللبناني. وعن شمالها حمص.. ولكن بعلبك عن جنوبها.
لقب الهرمل خزان المقاومة.. وفيها بنا الرومان منذ زمن قديم إشارات هندسية تحدد أفق حمص. تحت عينها تنام مدينة الثورة السورية ليس بعيدا عن مرمى صواريخها الكثيرة.
هل يظن الجيش الحر أن معركة كهذه من مصلحته؟ أم أن المزيج الريفي والقاعدي المتشدد في القصير يجر الجيش الحر إلى معركة “نصرة” ضد الشيعة؟
الدعوة اليوم إلى من يملكون بصيرة ما أو أفق ما في قيادات المعارضة السورية، إياكم والهرمل.. فلولا الهرمل لما انتصر حزب الله في الجنوب. وما ظهر في مقاطع الفيديو عن معارككم الأخيرة عند تخوم المنطقة العازلة ما بين الهرمل والقصير مضحك للغاية. كأن مقاتلي الجيش الحر أبطال من مسلسل باب الحارة، ومقاتلي حزب الله جيش عات منظم يعمل بأقل خسائر ممكنة لدى الطرفين و”عالنظيف”.
تغير الحال، فالحزب يعلن اليوم بملء الفم عن وجوده لحماية تلك القرى. وأنتم تتقدمون لاحتلال مزرعة شيعية وإعلان بسط السيطرة والنصر.. وماذا بعد المزرعة؟ هل ستقتربون أكثر؟ إن اقتربتم فالمعركة واضحة النتيجة سلفاً.. سوف تموتون!! والمشكلة أن من يحرككم يريد أن تقتربوا وتموتوا، حتى يقول إن المقاومة في لبنان تنشغل عن إسرائيل بضرب المعارضة السورية.
من قام بتقريب جبهة القصير مسافة سبع مزارع شيعية سوف يعمل على تقريب الفتنة أكثر. لا يزال حزب الله يشرب المياه ويهدأ ويكبح انفعالاته العسكرية وينظم صفوفه. ولكن غداً؟ وبمجرد وصول هذه الفتنة ليتناول الحديث عنها خطاب السيد حسن نصر الله الأخير.. فهذا يعنني أننا تقدمنا في الحرب مرحلة… وعسى أن تقينا المفاوضات الروسية شرّ هذه الفتنة، وربما يحول التفاوض السوري الحرب المذهبية السورية إلى الساحة المختصة بالحرب الأهلية في لبنان، فهل يكف الميقاتي عن نأيه بنفسنا؟؟