فقد أصبح للوسط مواعيده الموسمية مع رواده، وكادت الأمكنة تنطق بلهجات مرتاديها، بعد أن خلت معظم المقاهي من اللبنانيين، ليصير أبناء المدينة والعاصمة والوطن غرباء وسط عاصمتهم، يحملون بعضا من ذاكرة مكان في صور يشاهدونها او أحاديث يسمعونها ممن عايش الحقبة الماضية، يوم كان هذا الوسط يضج بالاسواق والمقاهي الشعبية، يقصده اللبنانيون من مختلف المناطق، من المدن والقرى والأرياف.
لا مكان لها
تُسرع عبير من خطواتها أمام مقاهي “الداون تاون”. تحاول جاهدة أن تجتاز بسرعة هذه المنطقة التي لا تجد لها مكانا فيها. فقد ورد الى مسامعها منذ وقت طويل ارتفاع الاسعار في هذه المقاهي، الامر الذي دفعها الى الاستعاضة عنها بمقاهي الأرصفة في الحمرا والمناطق القريبة.
وفي كل مرة تصل فيه الى شارع العازارية، تستعيد ذكريات والدها عن هذا المكان، التي ما فتئ يرددها على مسامعها. مكان احتوى ساحات وأسواق ومقاهي ومكتبات ألفها الوالد وأبناء جيله.
تنظر عبير باستغراب الى هذا التحول الذي أصاب جزءا مهما من العاصمة، من هندسة الابنية المختلفة، الى “ناس” هذا المكان، وجغرافيته ومعالمه.
“الدراويش” لم تعد للدراويش
أما نسرين، فقاطعت وسط بيروت منذ ثلاث سنوات. منذ أن عادت الى لبنان في صيف ٢٠١٠ من غربتها في الكويت لتمضية أيام تقضيها الى جانب العائلة. اشتاقت الى سهرات لبنان كما تقول. اشتقات الى وسط البلد الذي اعتادت زيارته. اشتاقت الى مقهى الدراويش الذي تختبئ في زواياه قصصا نسجتها مع زملاء وأصدقاء الجامعة. دخلت المقهى مع عائلتها. دقائق قليلة ويحضر النادل، يفتح قارورة المياه على الطاولة ويُعلمهم بأن الـminimum charge على الشخص الواحد ٣٠ دولارا. ذُهلت من هذه الاسعار وهي التي اعتادت قبلا ارتياد هذا المقهى وطلب القهوة فقط أحيانا كثيرة. فكرت قليلا بكلامه فوجدت ان ٣ فناجين من القهوة سيكون ثمنها ٩٠ دولارا، معادلة خاسرة. حتى ثمن قارورة المياه الذي دفعوه وصل الى ٥ دولارات.
غادروا المكان غير آسفين وقصدوا مقهى بساط الريح. لم يكن المكان بالافضل كثيرا. فالـminimum charge ٢٠ دولارا على الشخص. لكنه “أشرح” من المقاهي في الشارع اذ يقع في الطابق ١٢. سهروا هناك مضطرين حتى لا يعودوا أدراجهم الى البيت.
لبنان للكويتيين
بالنسبة لنسرين الأمر حساس جدا. عاد كلام زميلتها الكويتية يتردد صداه في أذنها خلال السهرة، عندما قالت لها “لا تذهبي الى لبنان، اتركوا لبنان لنا نحن الكويتيين”.
أجابتها نسرين حينها ضاحكة “هذا بلدي كيف أتركه لكم؟”. شعرت للحظات أن كلام “الكويتية” دقيق جدا. فهذه الأماكن لا يمكن في رأيها ان يرتادها اللبنانيون من الطبقات الفقيرة والوسطى. وغالبية من يرتادها هم خليجيون. ضاقت ذرعا بما آلت إليه الحال وقطعت عهدا مع عائلتها ان لا ترتاد وسط بيروت بعد ذاك اليوم، حيث تقوم باستبدال تلك المقاهي في كل زيارة لها الى لبنان بمقاهي الحمرا.
ذاكرة “وسط”
لطالما ارتبط وسط بيروت بأسماء ساحات وأسواق تراثية وتقليدية أفل نجمها بعد أن حل مكانها وسطا تجاريا لا يمت بصلة الى حكايات البلد القديمة وتراثه، ولا يحمل من الماضي شيئا حتى الذكريات.
ضاعت ساحات الدباس والبرج ومقهى “لاروندا” ومقهى “الجمهورية” ومحل الحلويات الشهير “البحصلي” وسينما “ريفولي” وسوق “سرسق الشعبي”، وسوق “أيّاس” وسوق “الطويلة” التي كان يقصدها الميسورون عادة.
اختفت بسطات الفقراء والمكتبات العامة والبيوت، وحلت على أنقاضها أسماء جديدة، بات الغريب أكثر دراية بها من اللبناني، منها الـpetit cafe، وgrand cafe، و”الدراويش”، و”بساط الريح”، وكوستا، وميشو، وبلاس دو ليتوال، وغيرها من الاسماء التي تشهد على محو معالم بيروتية الى غير رجعة.
لا مكان للمغتربين
أسدل الستار على حقبة فتح فيها وسط البلد أحضانه لكل أبناء الوطن، وبات اليوم حكرا على أبناء الطبقة المخملية ونادرا ما يرتاده المواطنون العاديون.
حقيقة يؤكدها موظف في أحد المقاهي هناك حيث يقول “إن المعتّر اللبناني” لن يقصد هذه المقاهي من أجل قضاء سهرة مع عائلته. و”المعتّر” في رأيه، هو الموظف الذي يعتمد على راتبه الشهري.
إذاً تمزقت الذاكرة واضمحلت حقبة تاريخية مهمة من وسط البلد، وفُتح الستار على حقبة جديدة استبشر بها المسؤولين خيرا، فإذا بالمقاهي الجديدة في الحمرا والأشرفية وجونية تُسهم بالقضاء عليها، لتُصبح المأساة مزدوجة: ضياع وسط البلد القديم، فيما “التجارة الجديدة” تسير نحو الخسارة.
عندليب دندش – آسيا